سلمان الفارسي
( الباحث عن الحقيقة )
ها هو ذا جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أمام دار بالمدائن يحث جلساءه عن مغامرته العظمى فى سبيل الحقيقة ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس إلى المسيحية ثم إلى الإسلام ......
كيف غادر ثراء أبيه الباذخ ، ورمى نفسه فى أحضان الفاقة بحثا عن خلاص عقله وروحة ....!!!
كيف بيع فى سوق الرقيق وهو فى طريق بحثه عن الحقيقة ... ؟؟؟
كيف التقى بالرسول عليه الصلاة والسلام وكيف آمن به .... ؟؟
تعالوا نقترب من مجلسه الجليل ونصغ إلى النبأ الباهر الذي يرويه ....
***********
" كنت رجلا من أهل أصبهان ، من قرية يقال لها ( جي ) ...
وكان أبي دهقان أرضه ، وكنت من أحب عباد الله إليه ، وقد اجتهدت فى المجوسية حتى كنت قاطن النار التي نوقدها ولا نتركها تخبوا .....
وكان لأبي ضيعة أرسلني إليها يوما فخرجت فمررت بكنيسة للنصارى ، فسمعتهم يصلون فدخلت عليهم انظر ما يصنعون ، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم وقلت لنفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه ، فما برحتهم حتى غابت الشمس ولا ذهبت إلى ضيعة أبي ولا رجعت إليه حتى بعث فى أثري .....
وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم فقالوا : فى الشام
وقلت لأبي حين عدت إليه : إني مررت على قوم يصلون فى كنيسة لهم فأعجبني صلاتهم ورأيت أن دينهم خير من ديننا ، فحاورني وحاورته ثم جعل فى رجلي حديدا وحبسني .....
وأرسلت إلى النصارى أخبرهم إني دخلت فى دينهم وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام أن يخبروني قبل عودتهم غليها لأرحل إلى الشام معهم وقد فعلوا فحطمت الحديد وخرجت وانطلقت معهم إلى الشام .....
وهناك سألت عن عالِمهم فقيل لي : هو الأسقف صاحب الكنيسة فآتيته وأخبرته خبري ، فأقمت معه أخدم وأصلي وأتعلم ...
وكان هذا الأسقف رجل سوء فى دينه إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها ثم يكتنزها لنفسه ، ثم مات . وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه فما رأيت رجلا على دينهم خيرا منه ولا أعظم رغبة فى الآخرة وزهدا فى الدنيا ودأبا على العبادة .....
وأحببته حباً ما علمت أني أحببت أحداً مثله قبله فلما حضره قدره قلت له : إنه قد حضرك من أمر الله ماترى فبما تأمرني وغلى من توصي بي ؟؟
قال : إي بني ما أعرف أحداً من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلاً بالموصل ..
فلما توفى آتيت صاحب الموصل فأخبرته الخبر وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم ثم حضرته الوفاة فسألته فدلني على عابد فى نصيبين ....
فآتيته وأخبرته خبري ، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم فلما حضرته الوفاة فسألته فأمرني أن ألحق برجل فى عمورية من بلاد الروم فرحلت إليه وأقمت معه ثم واصطنعت لمعاشي بقرات وغنمات . ثم حضرته الوفاة فقلت له : إلى من توصي بي فقال لي : يابني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفاً يهاجر إلى ذات نخل بين جِرتين فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل ......
وإن له آيات لا تخفى : فهو لا يأكل الصدقة ... ويقبل الهدية ... وإن بين كتفيه خاتم النبوة ، إذا رأيته عرفته .
ومر بي ركب – ذات يوم – فسألتهم عن بلادهم ، فعلمت أنهم من جزيرة العرب . فقلت لهم أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم ؟ قالوا : نعم.
واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى وهناك ظلموني ، وباعوني إلى رجل من اليهود وبصرت بنخل كثير فطمعت أن تكون هذه البلد التي وصفت لي ، والتي ستكون مهاجر النبي المنتظر .. ولكنها لم تكنها .
وأقمت عند الرجل الذي اشتراني حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بني قريظة فابتاعني منه ثم خرج بي حتى قدمت المدينة !! فوا الله ماهو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلدة التي وصفت لي ... وأقمت معه أعلم له فى نخلة فى بني قريظة حتى بعث الله رسوله وحتى قدم المدينة ونزل بقباء فى بني عمرو بن عوف .
وإني لفي رأس نخلة يوماً وصاحي واقف تحتها إذ أقبل رجل من يهود ، من بني عمه فقال يخاطبه : قاتل الله بني قيلة إنهم ليتقاصفون على رجل بقباء قادم من مكة يزعمون أنه نبي ...
فو الله ماهو إلا أن قالها حتى أخذتني العوراء فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي !! ثم نزلت سريعا . أقول : ماذا تقول ؟؟ ما الخبر ؟؟
فرفع سيدي يده ولكزني لكزه شديدة ثم قال مالك ولهذا ؟ أقبل على عملك ....
فأقبلي على عملي ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء فدخل عليه وكان معه نفر من أصحابة فقلت له : إنكم أهل حاجة وغربة وقد كان عني طعام نذرته للصدقة فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به ثم وضعته فقال الرسول لأصحابه: كلوا بسم الله .. وأمسك هو فلم يبسط إليه يده .
فقلت فى نفسي : هذه والله ، واحدة ... إنه لا يأكل الصدقة ....!!
ثم رجعت ، وعدت إلى الرسول عليه السلام فى الغداة أحمل طعاما وقلت له عليه السلام : إني رأيتك لا تأكل الصدقة .. وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية ، ووضعته بين يديه فقال لأصحابه : كلوا بسم الله .... وأكل معهم .
قلت لنفسي : هذه والله ، الثانية .... إنه يأكل الهدية ...!!!
ثم رجعت فمكثت ما شاء الله ثم آتيته فوجدته فى البقيع قد تبع جنازة وحوله أصحابه وعليه شملتان مؤتزراً بواحدة مرتدياً الأخرى فسلمت عليه ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره فعرف أني أريد ذلك فألقى بردته عن كاهله فإذا العلامة بين كتفيه خاتم النبوة كما وصفه لي صاحبي ... فأكببت عليه أقبلة وأبكي .. ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن ....
ثم أسلمت وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد .....
وفي ذات يوم قال الرسول عليه الصلاة والسلام : " كاتب سيدك حتى يعتقك " فكاتبته أمر الرسول الصحابة حتى يعاونوني وحرر الله رقبتي وعشت حرا مسلما وشهدت مع رسول الله غزوة الخندق والمشاهد كلها .....
***********
بهذه الكلمات الوضاء العذاب ... تحدث سلمان الفارسي عن مغامرته الزكية النبيلة العظيمة فى سبيل بحثه عن الحقيقة الدينية التي تصله بالله وترسم له دوره فى الحياة ..
فأي إنسان شامخ كان هذا الإنسان أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطلعة وفرضته إرادته الغلابة على المصاعب فقهرتها وعلى المستحيل فجعلته ذلولا .. ؟؟
أي تبتل للحقيقة وأي ولاء لها هذا الذي اخرج صاحبه طائعا مختاراً من ضياع أبيه وثراءه ونعماءه إلى المجهول بكل أعباءه ومشاقة وينتقل من أرض إلى أرض .. ومن بلد إلى بلد .. ناصباً كادحاً عابداً تفحص بصيرته الناقدة الناس والمذاهب والحياة ... ويظل فى إصراره العظيم وراء الحق ، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقاً ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى فيجمعه بالحق ويلاقيه برسوله ثم يعطيه من طول العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق فى كل مكان من الأرض وعباده المسلمون يملئون أركانها وأنحائها هدى وعمراناً وعدلاً ... ؟!
ماذا نتوقع أن يكون إسلام هذا الرجل ، هذه همته وهذا صدقه !!؟؟؟
لقد كان إسلام الأبرار المتقين ... وقد كان فى زهده وفطنته وورعه أشبه الناس بعمر بن الخطاب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.